فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بصيرة في الحمد والحميد:

الحمد: الثَّناءُ بالفضيلة، وهو أَخَصّ من المَدْح وأَعمّ من الشكر فإن المدح يقال فيما يكون من الإِنسان باختياره وممّا يكون منه وفيه بالتَّسخير، فقد يُمْدَحُ الإِنسان بطول قامته وصباحة وجهه، كما يُمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحَمْدُ يكون في الثاني دون الأَوّل، والشكر لا يقال إِلاَّ في مقابلة نِعمة: فكلُّ شكر حمد وليس كلّ حمدٍ شكرًا، وكلّ حَمْد مدح وليس كلّ مدحٍ حمدًا.
وفلان محمود إِذا حُمِد، ومحمَّد إِذا كثرت خصالُه المحمودة، ومُحْمَد كمكْرَم إِذا وُجد محمودًا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ حَمِيد مَّجِيد} يصحّ أَن يكون في معنى المحمود، وأَن يكون في معنى الحامد.
وحُمادَاك أَن تفعل كذا أَى غايتك المحمودة.
وقوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} فأَحمد إِشارة إِلى النبي صلَّى الله عليه وسلم باسمه وفعله تنبيهًا على أَنَّه كما وُجد أَحمدَ يوجد وهو محمود في أَخلاقه وأَفعاله.
وخُصّ بلفظ أَحمد فيما يبشِّر به عيسى عليه السّلام تنبيهًا أَنَّه أَحمد منه ومن الَّذين قبله.
وقوله تعالى: {مُّحَمَّد رَّسُولُ اللَّهِ} فمحمّد هاهنا وإِن كان اسمًا له علمًا ففيه إِشارة إِلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه كما في قوله تعالى: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى} على معنى الحياة كما يبيّن في بابه إِن شاءَ الله. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {رب العالمين}:

.قال الفخر:

.الفصل الثاني: في تفسير قوله: {رب العالمين}:

وفيه فوائد:
أقسام العالم وأنواع كل قسم:

.الفائدة الأولى: الموجود إما أن يكون واجبًا لذاته وإما أن يكون ممكنًا لذاته:

اعلم أن الموجود إما أن يكون واجبًا لذاته، وإما أن يكون ممكنًا لذاته، أما الواجب لذاته فهو الله تعالى فقط، وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى الله تعالى وهو العالم، أن المتكلمين قالوا: العالم كل موجود سوى الله، وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى الله يدل على وجود الله تعالى، فلهذا السبب سمي كل موجود سوى الله بأنه عالم.
إذا عرفت هذا فنقول: كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون متحيزًا، وإما أن يكون صفة للمتحيز، وإما أن لا يكون متحيزًا ولا صفة للمتحيز، فهذه أقسام ثلاثة: القسم الأول: المتحيز: وهو إما أن يكون قابلًا للقسمة، أو لا يكون، فإن كان قابلًا للقسمة فهو الجسم، وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد؛ أما الجسم فإما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية؛ أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب، وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين، مثل العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة، وأما الأجسام السفلية فهي إما بسيطة أو مركبة: أما البسيطة فهي العناصر الأربعة: واحدها: كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة، وثانيها: كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا الله تعالى، وثالثها: كرة الهواء، ورابعها: كرة النار.
وأما الأجسام المركبة فهي النبات، والمعادن، والحيوان، على كثرة أقسامها وتباين أنواعها، وأما القسم الثاني وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات فهي الأعراض، والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنسًا من أجناس الأعراض.
أما الثالث وهو الممكن الذي لا يكون متحيزًا ولا صفة للمتحيز فهو الأرواح، وهي إما سفلية، وإما علوية: أما السفلية فهي إما خيرة، وهم صالحو الجن، وإما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين.
والأرواح العلوية إما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية، وإما غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المطهرة المقدسة، فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم، ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام، إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد، ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته، فيكون محتاجًا في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته، وأيضًا ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغنى عن المبقي، والله تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود، وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها.
وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله {الحمد لله رب العالمين}، وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفًا على تفسير قوله رب العالمين.

.الفائدة الثانية: أقسام المربي:

المربي على قسمين: أحدهما: أن يربي شيئًا ليربح عليه المربي، والثاني: أن يربيه ليربح المربي، وتربية كل الخلق على القسم الأول، لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه إما ثوابًا أو ثناءً، والقسم الثاني: هو الحق سبحانه، كما قال: خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن، وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين.
واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره، وبيانه من وجوه: الأول: ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم، الثاني: أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعالٍ عن النقصان والضرر، كما قال تعالى: {وَإِن مّن شيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء».
الرابع: أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ألا ترى أنه رباك حال ما كنت جنينًا في رحم الأم، وحال ما كنت جاهلًا غير عاقل، لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية.
الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه ألبتة.
السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَئ} [الأعراف: 156] فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه {الحمد لله رب العالمين}.

.الفائدة الثالثة: أسباب المدح والعظمة في الدنيا:

أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة؛ إما لكونه كاملًا في ذاته وفي صفاته منزهًا عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك، وإما لكونه محسنًا إليك ومنعمًا عليك، وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان، وإما لأجل أنك تكون خائفًا من قهره وقدرته وكمال سطوته، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين، وهو المراد من قوله الحمد لله، وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فانا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا {مالك يوم الدين}.

.الفائدة الرابعة: كثرة وجوه تربية الله للعبد:

وجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية، ونحن نذكر منها أمثلة: المثال الأول: لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولًا، ثم مضغة ثانيًا، ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين، ثم اتصل البعض بالبعض، ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى، فحصلت القوة الباصرة في العين، والسامعة في الأذن، والناطقة في اللسان، فسبحان من أسمع بعظم، وبصر بشحم، وأنطق بلحم، واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور، وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد المثال الثاني: أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب: أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة؛ وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض، وهو عروق الشجرة، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولًا، ثم الثمار ثانيًا، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان، وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة، وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها، والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية، كما قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا} [عبس: 25، 26] الآيات.
المثال الثالث: أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابًا لحصول مصالح العباد، فخلق الليل ليكون سببًا للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سببًا للمعاش والحركة: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} [يونس: 5]: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا في ظلمات البر والبحر} [الأنعام: 97] واقرأ قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَادًا} [النبأ: 5، 6] إلى آخر الآية واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله {الحمد لله رب العالمين}.